كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم تمضي القصة في سياقها بعد الرجفة التي أخذت رجالات بني إسرائيل.. ولا يذكر السياق هنا ماذا كان من أمرهم بعد دعوات موسى عليه السلام وابتهالاته. ولكنا نعرف من سياق القصة في سور أخرى أن الله أحياهم بعد الرجفة، فعادوا إلى قومهم مؤمنين.
وقبل أن يمضي السياق هنا في حلقة جديدة، يقرر حقيقة عن قوم موسى.. أنهم لم يكونوا جميعًا ضالين:
{ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}..
هكذا كانوا على عهد موسى؛ وهكذا كانت منهم طائفة تهدي بالحق وتحكم بالعدل من بعد موسى.. ومن هؤلاء من استقبلوا رسالة النبي الأمي في آخر الزمان بالقبول والاستسلام، لما يعرفونه عنها في التوراة التي كانت بين أيديهم على مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أولهم الصحابي الجليل: عبد الله بن سلام رضي الله عنه. الذي كان يواجه يهود زمانه بما عندهم في التوراة عن النبي الأمي، وما عندهم كذلك من شرائع تصدقها شرائع الإسلام.
وبعد تقرير تلك الحقيقة تمضي القصة في أحداثها بعد الرجفة:
{وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطًا أممًا وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشر عينًا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}..
إنها رعاية الله ما زالت تظلل موسى وقومه- بعد أن كفروا فعبدوا العجل، ثم كفروا عن الخطيئة كما أمرهم الله، فتاب عليهم. وبعد أن طلبوا رؤية الله جهرة، فأَخذتهم الرجفة، ثم استجاب الله لدعاء موسى فأحياهم.. تتجلى هذه الرعاية في تنظيمهم حسب فروعهم في اثنتي عشرة أمة- أي جماعة كبيرة- ترجع كل جماعة منها إلى حفيد من حفداء جدهم يعقوب- وهو إسرائيل- وقد كانوا محتفظين بأنسابهم على الطريقة القبلية: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطًا أممًا}..
وتبدو في تخصيص عين تشرب منها كل جماعة وتعيينها لهم، فلا يعتدي بعضهم على بعض.
{وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كل أناس مشربهم..}.
وتبدو في تظليل الغمام لهم من شمس هذه الصحراء المحرقة، وإنزال المن- وهو نوع من العسل البري- والسلوى، وهو طائر السماني، وتيسيره لهم ضمانًا لطعامهم بعد ضمان شرابهم: {وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى}..
وتبدو في إباحة كل هذه الطيبات لهم، حيث لم يكن قد حرم عليهم بعد شيء بسبب عصيانهم: {كلوا من طيبات ما رزقناكم}..
والرعاية واضحة في هذا كله؛ ولكن هذه الجبلة ما تزال بعد عصية على الهدى والاستقامة كما يبدو من ختام هذه الآية التي تذكر كل هذه النعم وكل هذه الخوارق: من تفجير العيون لهم من الصخر بضربة من عصا موسى. ومن تظليل الغمام لهم في الصحراء الجافة. ومن تيسير الطعام الفاخر من المن والسلوى:
{وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}..
وسيعرض السياق نماذج من ظلمهم لأنفسهم؛ بالمعصية عن أمر الله والالتواء عن طريقه.. وما يبلغون بهذا الالتواء وتلك المعصية أن يظلموا الله سبحانه فالله غني عنهم وعن العالمين أجمعين. وما ينقص من ملكه أن يجتمعوا هم والعالمون على معصيته؛ وما يزيد في ملكه أن يجتمعوا هم والعالمون على طاعته. إنما هم يؤذون أنفسهم ويظلمونها بالمعصية والالتواء، في الدنيا وفي الآخرة سواء.
والآن فلننظر كيف تلقى بنو إسرائيل رعاية الله لهم؛ وكيف سارت خطواتهم الملتوية على طول الطريق:
{وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدًّا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولًا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزًا من السماء بما كانوا يظلمون}..
لقد عفا الله عنهم بعد اتخاذهم العجل؛ وعفا عنهم بعد الرجفة على الجبل. ولقد أنعم عليهم بكل تلك النعم.. ثم ها هم أولاء تلتوي بهم طبيعتهم عن استقامة الطريق! ها هم أولاء يعصون الأمر، ويبدلون القول! ها هم أولاء يؤمرون بدخول قرية بعينها- أي مدينة كبيرة- لا يعين القرآن اسمها- لأنه لا يزيد في مغزى القصة شيئًا- وتباح لهم خيراتها جميعًا، على أن يقولوا دعاء بعينه وهم يدخلونها؛ وعلى أن يدخلوا بابها سجدًّا، إعلان للخضوع لله في ساعة النصر والاستعلاء- وذلك كما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عام الفتح ساجدًّا على ظهر دابته- وفي مقابل طاعة الأمر يعدهم الله أن يغفر لهم خطيئاتهم وأن يزيد للمحسنين في حسناتهم.
فإذا فريق منهم يبدلون صيغة الدعاء التي أمروا بها، ويبدلون الهيئة التي كلفوا أن يدخلوا عليها.. لماذا؟ تلبية للانحراف الذي يلوي نفوسهم عن الاستقامة:
{فبدل الذين ظلموا منهم قولًا غير الذي قيل لهم}..
عندئذ يرسل الله عليهم من السماء عذابًا.. السماء التي تنزل عليهم منها المن والسلوى وظللهم فيها الغمام!..
{فأرسلنا عليهم رجزًا من السماء بما كانوا يظلمون}..
وهكذا كان ظلم فريق منهم- أي كفرهم- ظلمًا لأنفسهم بما أصابهم من عذاب الله..
ولا يفصل القرآن نوع العذاب الذي أصابهم في هذه المرة. لأن غرض القصة يتم بدون تعيينه. فالغرض هو بيان عاقبة المعصية عن أمر الله، وتحقيق النذر، ووقوع الجزاء العادل الذي لا يفلت منه العصاة.
ومرة أخرى يقع القوم في المعصية والخطيئة.. وهم في هذه المرة لا يخالفون الأمر جهرة ولكنهم يحتالون على النصوص ليفلتوا منها! ويأتيهم الابتلاء فلا يصبرون عليه، لأن الصبر على الابتلاء يحتاج إلى طبيعة متماسكة في تملك الارتفاع عن الأهواء والأطماع:
{واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم}..
يعدل السياق هنا عن أسلوب الحكاية عن ماضي بني إسرائيل، إلى أسلوب المواجهة لذراريهم التي كانت تواجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة.. والآيات من هنا إلى قوله تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} آيات مدنية. نزلت في المدينة لمواجهة اليهود فيها؛ وضمت إلى هذه السورة المكية في هذا الموضع، تكملة للحديث عما ورد فيها من قصة بني إسرائيل مع نبيهم موسى.
يأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل اليهود عن هذه الواقعة المعلومة لهم في تاريخ أسلافهم.
وهو يواجههم بهذا التاريخ بوصفهم أمة متصلة الأجيال؛ ويذكرهم بعصيانهم القديم، وما جره على فريق منهم من المسخ في الدنيا؛ وما جره عليهم جميعًا من كتابة الذل عليهم والغضب أبدًا.. اللهم إلا الذين يتبعون الرسول النبي، فيرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
ولا يذكر اسم القرية التي كانت حاضرة البحر؛ فهي معروفة للمخاطبين! فأما الواقعة ذاتها فقد كان أبطالها جماعة من بني إسرائيل يسكنون مدينة ساحلية.. وكان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيدًا للعبادة؛ ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش، فجعل لهم السبت.. ثم كان الابتلاء ليربيهم الله ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع؛ وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع.. وكان ذلك ضروريًا لبني إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم وطباعهم بسبب الذل الذي عاشوا فيه طويلًا؛ ولابد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية، لتعتاد الصمود والثبات. فضلًا على أن هذا ضروري لكل من يحملون دعوة الله؛ ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض.. وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وجه من قبل إلى آدم وحواء.. فلم يصمدا له واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى! ثم ظل هو الاختبار الذي لابد أن تجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض.. إنما يختلف شكل الابتلاء، ولا تتغير فحواه!
ولم يصمد فريق من بني إسرائيل- في هذه المرة- للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم.. لقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل، قريبة المأخذ، سهلة الصيد. فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها على أنفسهم! فإذا مضى السبت، وجاءتهم أيام الحل. لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة. كما كانوا يجدونها يوم الحرم!.. وهذا ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم به؛ ويذكرهم ماذا فعلوا وماذا لاقوا:
{واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون}.
فأما كيف وقع لهم هذا، وكيف جعلت الأسماك تحاورهم هذه المحاورة، وتداورهم هذه المداورة.. فهي الخارقة التي تقع بإذن الله عندما يشاء الله.. والذين لا يعلمون ينكرون أن تجري مشيئة الله بغير ما يسمونه هم قوانين الطبيعة! والأمر في التصور الإسلامي- وفي الواقع- ليس على هذا النحو.. إن الله سبحانه هو الذي خلق هذا الكون، وأودعه القوانين التي يسيرعليها بمشيئته الطليقة. ولكن هذه المشيئة لم تعد حبيسة هذه القوانين لا تملك أن تجري إلا بها. لقد ظلت طليقة بعد هذه القوانين كما كانت طليقة.
وهذا ما يغفل عنه الذين لا يعلمون.. وإذا كانت حكمة الله ورحمته بعباده المخاليق قد اقتضت ثبات هذه القوانين؛ فإنه لم يكن معنى هذا تقيد هذه المشيئة وانحباسها داخل هذه القوانين.. فحيثما اقتضت الحكمة جريان أمر من الأمور مخالفًا لهذه القوانين الثابتة جرت المشيئة طليقة بهذا الأمر.. ثم إن جريان هذه القوانين الثابتة في كل مرة تجري فيها إنما يقع بقدر من الله خاص بهذه المرة. فهي لا تجري جريانًا آليًا لا تدخل لقدر الله فيه.. وهذا مع ثباتها في طريقها ما لم يشأ الله أن تجري بغير ذلك.. وعلى أساس أن كل ما يقع- سواء من جريان القوانين الثابتة أو جريان غيرها- إنما يقع بقدر من الله خاص، فإنه تستوي الخارقة والقانون الثابت في جريانه بهذا القدر.. ولا آلية في نظام الكون في مرة واحدة- كما يظن الذين لا يعلمون!- ولقد بدأوا يدركون هذا في ربع القرن الأخير!
على أية حال، لقد وقع ذلك لأهل القرية التي كانت حاضرة البحر من بني إسرائيل.. فإذا جماعة منهم تهيج مطامعهم أمام هذا الإغراء، فتتهاوى عزائمهم، وينسون عهدهم مع ربهم وميثاقهم، فيحتالون الحيل- على طريقة اليهود- للصيد في يوم السبت! وما أكثر الحيل عندما يلتوي القلب، وتقل التقوى، ويصبح التعامل مع مجرد النصوص، ويراد التفلت من ظاهر النصوص!.. إن القانون لا تحرسه نصوصه، ولا يحميه حراسه. إنما تحرسه القلوب التقية التي تستقر تقوى الله فيها وخشيته، فتحرس هي القانون وتحميه. وما من قانون تمكن حمايته أن يحتال الناس عليه! ما من قانون تحرسه القوة المادية والحراسة الظاهرية! ولن تستطيع الدولة- كائنًا ما كان الإرهاب فيها- أن تضع على رأس كل فرد حارسًا يلاحقه لتنفيذ القانون وصيانته؛ ما لم تكن خشية الله في قلوب الناس، ومراقبتهم له في السر والعلن..
من أجل ذلك تفشل الأنظمة والأوضاع التي لا تقوم على حراسة القلوب التقية. وتفشل النظريات والمذاهب التي يضعها البشر للبشر ولا سلطان فيها من الله.. ومن أجل ذلك تعجز الأجهزة البشرية التي تقيمها الدول لحراسة القوانين وتنفيذها. وتعجز الملاحقة والمراقبة التي تتابع الأمور من سطوحها!